متابعة حسابات مواقع التواصل الاجتماعي.. وما عليها
المشاعر السلبية التي تصيب كثير من متابعي مواقع التواصل الاجتماعي ليس سببها دائما أن المحتوى نفسه سلبي.. وإنما في كثير من الأحيان لكونه إيجابي بشكل مبالغ فيه! بشكل خارق للعادة! كأنهم كائنات خرافية حياتها غير عادية! بشكل يجعل من يتابعهم يشعر دائما بالنقص والافتقاد -وربما لا أبالغ إن قلت الحرمان- ورغما عنه يجد نفسه متطلعا لما في يد أصحاب تلك الحسابات من النِعَم.
أصحاب النفوس الطيبة قد يكتفون بالغبطة وتمنى الخير للغير، والمجتهدون منهم قد يسعون لحيازة نفس تلك النعم بطرق سوية.
لكن هناك أصحاب نفوس ضعيفة يحسدون، وقد تظهر أمراض أنفسهم في تعليقات مفعمة بالكراهية والتنمر على تلك الحسابات، وقد تسول لهم أنفسهم سرقة ما في أيدي غيرهم خلسة نتيجة شعورهم الطاغي بالحرمان.
قد يظن أصحاب تلك الحسابات البراءة في أنفسهم وعدم استحقاقهم لمعاملة كهذه، فأي خطأ في نشر صور “الإيجابية” بين الناس!
الخطأ في كثير من الأحيان أن هذه “الإيجابية” تكون مفتعلة، ومنمقة بشكل خاص لالتقاط الصورة، ولولا الصورة لكان الوضع اختلف!
وأن تجنبهم لـ”السلبية” ليس دائمًا لحماية نفسية المتابعين -أو ربما على الإطلاق- وإنما أيضًا لحفظ صورتهم التي رسموها عن أنفسهم في الواقع الافتراضي، والتي يخشون إن شابها شيء أن ينفض عنهم جمهور المعجبين والمتابعين، وتضيع معهم ثقتهم في أنفسهم وإحساسهم بقيمتهم.
وأن إنكارهم لدورهم في شعور الناس بالنقص وإلقاء كل اللوم على المتلقي هو هروب من المسؤولية، فمنهم من في قرارة أنفسهم يشعرون بالسعادة والتميز بما معهم وما يعرضونه في صورهم، ويُرضي غرورهم تهافت التعليقات بالسؤال عن مكان شراء هذا أو ذاك، ولا يخفى على أحد أن هناك فئة من المتفرجين لا يقدرون على شراء تلك الكماليات، لكنهم يختارون تجاهل التفكير بشأنهم أو أنهم لم يردوا على بالهم أصلا لانغماسهم المتناهي في ذواتهم وانفصالهم عن الواقع من حولهم. ويطول الحديث عن الثقافة الاستهلاكية وآثارها لكنها ليست موضوعي الآن.
الواقع الافتراضي أثر على تفكير هذا الجيل صغيره وكبيره، ولا أستثني نفسي، ولربما لو كنت نلت شهرة كبيرة لتغيرت تصرفاتي بشكل كبير تبعا لذلك، فالشهرة فتنة ليست بالهينة. وأظننا لو فكرنا قليلا سيرد على بالنا عدة أمثلة أفسدت الشهرة شخصيتها أيما فساد، أو أفسدت حياتها نتيجة الغيرة والحسد، وإن لم يؤمن كثير من غير المسلمين منهم بآثار ذلك الأخير.
أصبح من السهل الاطلاع على ما عند الناس بمختلف أعراقهم وثقافاتهم، دخول البيوت لم يعد حكرا على المقربين، فبضغطة زر تستطيع الاطلاع -أنت وملايين غيرك- على أثاث غرف نوم عائلة تعيش على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، ورغم ذلك من المؤكد أنك لو ذهبت تدق عليهم الباب وتطلب منهم دخول نفس تلك الغرف لما أدخلوك، ولاعتبروا طلبك تعدٍ صارخ على الخصوصية!
شيء محير فعلا إمكانية فصلنا للواقع المعاش عن الواقع الافتراضي، وتباين حدودنا في التعامل مع الآخرين ما بين هذا وذاك.
أشخاص خجولين في الواقع “لا تخرج منهم العيبة”، قد يتحولون لشخصيات بذيئة في الواقع الافتراضي! فتاة ملتزمة يستحيل أن تصلي أمام رجل حتى لا تفتنه بحركات الصلاة، قد تنشر صورها على العام بحركات و”فلاتر كيوت”! امرأة تخفي تفاصيل حياتها عن المقربين منها في الواقع، لكنها في نفس الوقت تنشرها في مقاطع مصورة يراها هؤلاء المقربون وغيرهم من محض الأغراب!
فصل عجيب!
من عدة أيام رأيت مقطع لشخص يحكي قصة دخوله الإسلام، وتكلم فيه عن كيف يمكن لأناس في الغرب أن يعايشوا مسلمين مسالمين طيبين خيرين لا يتوقعون منهم أي شر في حياتهم الواقعية، لكنهم في نفس الوقت يصدقون ما تنشره وتروج له وسائل الإعلام المختلفة عن “الإرهاب الإسلامي”، وقال ان هذه ظاهرة مثيرة للاهتمام ويجب أن تنال حقها من الدراسة.
ربما المثال لا ينطبق تماما على ما أتكلم عنه، لكنني أجده لا يبتعد كثيرًا، هو يتكلم عن مشكلة تصديق الإعلام فيما يكذبه رأى العين، وأنا أرى فيه القدرة على الفصل.
وامتدادًا للكلام عن تلك القدرة، أذكر موقف حدث لي في صغري حيث كانت إحدى قريباتنا تعلمنا بعض شئون ديننا فجاء في معرض كلامها ما معناه: “وليس كما يعتقدون أن الإنسان أصله قرد…” فنظرت لها مبهوتة من إنكارها لـ “حقيقة علمية” درسناها في المدرسة، وقلت: ” أوليس أصل الإنسان قرد!!”، فنظرت لي بهدوء وسألتني: “هل سيدنا آدم قرد؟”، فاحمر وجهي خجلا من نفسي وعدم انتباهي لهذه الحقيقة وإساءتي من حيث لا أدري لنبي الله، وقلت: “لا”.
كيف لي أن أؤمن تمامًا -كما تعلمت في حصة الدين- أن سيدنا آدم من تراب وأن الله خلقه في أحسن تقويم، وفي نفس الوقت أصدق تماما -كما تعلمت في حصة العلوم- أن الإنسان أصله قرد!
أي تناقض هذا! وكيف لم أنتبه له! ماذا تفعل المدارس بعقولنا! بل ماذا تفعل كل هذه الثقافات الغالبة بعقولنا بشتى أذرعها!
نعم هذه الثقافات الغربية أوجدت لنا أدوات حديثة يمكن استخدامها في خير كثير، لكن، كمن يسبح في البحر وظهره للشاطئ ولا يدري أين يسحبه التيار، من لا يُبقي عينيه دائمًا على دينه ويقيس عليه كل استخدامه واستقباله لما تتيحه تلك الثقافات، سيجرفه تيارها وتتضاربه أمواجها إلى أن يفقد الإحساس بالاتجاهات تمامًا ولا يدري سماءه من أرضه.
عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال: “لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وذِراعًا بذِراعٍ، حتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ، اليَهُودُ والنَّصارَى؟ قالَ: فَمَنْ.”
وعن أم سلمة أن رسول الله ﷺ كانَ أَكْثرُ دعائِهِ “يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي علَى دينِكَ”، قالَت فقُلتُ: “يا رسولَ اللَّهِ ما أَكْثرَ دعاءِكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قَلبي علَى دينِكَ”، قال: “يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ فمَن شاءَ أقامَ ومن شاءَ أزاغَ”، فَتلا معاذٌ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}.
عن أنسٍ بن مالك أن رسول الله ﷺ قال لفاطمةَ: “ما يمنعُكِ أن تسمعي ما أوصيكِ بِهِ، أن تقولي إذا أصبحتِ وأمسيتِ: يا حيُّ يا قيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ، أصلِح لي شأني كلَّهُ، ولا تَكلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ.”
أعلم أنني استطردت كثيرًا، وابتعدت عما بدأت حديثي لأجله…
الخلاصة، وما أردت الوصول إليه هو أن مسؤولية الآثار السلبية لمواقع التواصل المختلفة يقع على عاتق كل من أصحاب الحسابات، ومتابعي تلك الحسابات.
من يقدم محتوى يستعرض فيه نعم الله عليه ليل نهار فليتذكر قوة الحسد والغيرة، وأن الأذكار حصن المسلم نعم لكن الإنسان ينسى، وأن مشاعر الناس حولنا غالية وعلينا مراعاتها وعدم دغدغتها طوال الوقت بما ليس في استطاعتهم، وما قد يضطرهم لأفعال تجر عليهم المعاصي من حسد أو سرقة أو غيره.
ومن يرى في نفسه أثرًا “سلبيًا” من متابعة حساب -وإن كان “إيجابيًا”- فليتوقف عن متابعته فورًا.
أضيفي تعليقاً